فصل: سنة تسع وتسعين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقليب أحوال الإنسان وتاريخ موت بعض المشهورين من الأعيان **


 سنة خمس وتسعين

فيها أراح الله المسلمين بقلعه الحجاج بن يوسف الثقفي في ليلة مباركة لسبع وعشرين من رمضان وله ثلاث وقيل أربع وقيل خمس وخمسون سنة قالوا‏:‏ وكان شجاعاً مقداماً مهيباً فصيحاً مفوهاً بليغاً سفاكاً للدماء عاملاً لعبد الملك بن مروان ولي الحجاز سنتين ثم العراق وخراسان عشرين سنة ولما توفي عبد الملك وتولى ولده الوليد اقره على ما بيده‏.‏

وذكر في كتاب التعبير أنه أتي رجل ابن سيرين فقال‏:‏ اني رأيت على شرفات مسجد المدينة حمامة بيضاء فعجبت من حسنها فجاء صقر فاختطفها فقال له ابن سيرين‏:‏ إن صدقت رؤياك تزوج الحجاج ابنة عبدالله بن جعفر الطيار‏.‏

فما مضى إلا يسير حتى تزوجها فقيل له‏:‏ يا أبا عبدالله كيف تخلصت إلى ذلك فقال‏:‏ ان الحمامة امرأة وبياضها نقاء حسنها والشرفات شرفها فلم أجد في المدينة امرأة أنقى حسناً ولا أشرف نسباً من ابنة عبدالله بن جعفر ونظرت في الصقر فإذا هو سلطان ظالم غشوم فلم أر في السلاطين أصقر من الحجاج بن يوسف‏.‏

وذكر المسعودي في كتاب مروج الذهب أن أم الحجاج الفارعة بالفاء والراء والعين المهملة بنت همام بن عروة بن مسعود الثقفي كانت تحت الحارث بن كلدة الثقفي الطائفي حكيم العرب فدخل عليها ذات ليلة في السحر فوجدها تخلل أسنانها فبعث إليها بطلاقها فأرسلت إليه‏:‏ لم فعلت ذلك الشيء رابك مني قال‏:‏ نعم دخلت عليك في السحر وأنت تخللين فإن كنت بادرت في الغداء فأنت شرهة وإن كنت بت والطعام بين أسنانك فأنت قذرة فقالت‏:‏ كل ذلك لم يكن لكني تخللت من شظايا السواك فتزوجها بعده يوسيف بن أبي عقيل الثقفي فولدت له الحجاج لا دبر له فنقب عن دبره وأبى أن يقبل ثدي أمه وغيرها فأعياهم أمره فيقال إن الشيطان تصور لهم في صورة الحارث بن كلدة حكيم العرب المذكور فقال‏:‏ ما خبركم فقالوا‏:‏ ابن ولد ليوسف من الفارعة وقد أبى أن يقبل ثدي أمه فقال‏:‏ اذبحوا جدياً وألقوه او قال والعقوه دمه فإذا كان في اليوم الثاني فافعلوا به كذلك واذبحوا له في الثالث تيساً أسود وافعلوا بدمه كما تقدم ثم اذبحوا له أسود سالخاً‏.‏

قلت‏:‏ كأنه يعني ثعبان أسود قد سلخ جلده واستبدل آخر وأمرهم أن يطعموه دمه ويطلوا به وجهه وأخبرهم أنهم إذا فعلوا ذلك فإنه يقبل الثدي في اليوم الرابع ففعلوا به ذلك فكان لا يصبر عن سفك الدماء لما كان عنه في أول أمره‏.‏

وكان الحجاج يخبر عن نفسه‏:‏ ان أكبر لذاته سفك الدماء وارتكاب أمور لا يقدر عليها غيره‏.‏

وقيل إن الحجاج خطب يوماً فقال في أثناء كلامه‏:‏ ايها الناس إن الصبر عن محارم الله أهون من الصبر على عذاب الله فقام له رجل وقال‏:‏ ويحك يا حجاج ما أصفق وجهك وأقل حياؤك فأمر به فحبس فلما نزل عن المنبر دعا به فقال له اجترأت علي فقال له‏:‏ اتجترىء على الله فلا تنكره وتجترىء عليك فتنكره‏!‏ فخلي سبيله‏.‏

وذكر أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب تلقيح فهوم أهل الأثرة أن الفارعة أم الحجاج كانت تحت المغيرة بن شعبة وإن عمر بن الخطاب هل من سبيل إلى خمر فاشربها أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج فقال عمر لا أرى معي في المدينة رجلاً يهتف به العواتق من خدورهن علي بنصر بن الحجاج فأتي به فإذا هو أحسن الناس وجهاً وأحسنهم شعراً بفتح الشين والعين‏.‏

فقال عمر عزيمة من أمير المؤمنين لتأخذن من شعرك فأخذ منه فخرج له وجنتان كأنهما فلقتا قمر فقال له‏:‏ اعتم فاعتم ففتن الناس بعينيه فقال عمر‏:‏ والله لا يساكنني ببلدة فقال ما ذنبي يا أمير المؤمنين‏:‏ قال‏:‏ هو ما أقول لك وسيره إلى البصرة‏.‏

وأخبار الحجاج كثيرة هو الذي بنى مدينة واسط وسميت بذلك لتوسطها بين البصرة والكوفة‏.‏

قالوا ولما حضرته الوفاة دعا منجماً فقال له‏:‏ هل ترى في علمك ملكاً يموت فقال نعم ولست فقال ولم قالط‏:‏ لأن الذي يموت اسمه كليب فقال الحجاج‏:‏ والله بذلك سمتني أمي فأوصى عند ذلك وكان ينشد في مرض موته ما قاله عبيد بن سفيان العكلي‏.‏

يا رب قد حلف الأعداء واجتهدوا ايمانهم أنني من ساكني النار أيحلفون على عمياء ويحهم ماظنهم بعظيم العفوغفار وكان مرضه بالآكلة وقعت في بطنه فدعا بالطبيب فأخذ لحماً وعلقه في خيط وسرحه في حلقه وتركه ساعة ثم أخرجه وقد علق به دود كبيرة وسلط الله عليه بها الزمهريرة وكانت الكوانين تجعل حوله مملوءة ناراً وتدني منه حتى يحرق جلده وهو لا يحس بها فشكا ما يجده إلى الحسن البصري فقال له‏:‏ قد نهيتك أن تتعرض للصالحين‏.‏

وقيل إن الحسن سجد يشكر الله تعالى لما مات الحجاج فقال‏:‏ اللهم كما أمته فأمت عنا سنته وكان قد رأى الحجاج أن عينيه قلعتا وكانت تحته هند بنت المهلب وهند بنت أسماء بن خارجة فطلق الهندين ظناً منه أن رؤياه تتأول بهما فلم يلبث أن جاءه نعي أخيه محمد بن يوسف من اليمن في اليوم الذي مات فيه ابنه محمد فقال هذا والله تأويل رؤياي محمد ومحمد في يوم واحد إنا الله وإنا إليه راجعون ثم قال من يقول شعراً ليسليني فقال الفرزدق‏.‏

إن الرزية لا رزية مثلها فقدان مثل محمد ومحمد ملكان قد خلت المنابر منهما أخذ الحمام عليهما بالمرصد وكان أخوه محمد بن يوسف المذكور والياً على اليمن وكانت وفاة الحجاج في رمضان كما تقدم‏.‏

قلت فقصته السم القاتل والشوم العاجل بقتل السيد الفاضل سعيد بن جبير كما سيأتي ذكر قتله له في شعبان من السنة المذكورة فأراح الله العباد والبلاد من الحجاج وما كان فيه من الإفساد‏.‏

وذكرابن عبد ربه في العقد أن الفارعة كانت زوجة المغيرة بن شعبة فطلقها من أجل التخلل المذكور في الحكاية والله أعلم وإن الحجاج وأباه كانا يعلمان الصبيان بالطائف ثم لحق الحجاج بروح الجذامي وزير عبد الملك بن مروان وكان في عديد شرطته إلى أن رأى عبد الملك انحلال عسكره وإن الناس لا يرتحلون برحيله ولا ينزلون بنزوله فشكا ذلك إلى وزيره المذكور فقال لهم‏:‏ ان في شرطتي رجلاً لو قلده أمير المؤمنين أمر عسكره لأرحل الناس برحيله وأنزلهم بنزوله يقال له الحجاج قال‏:‏ فإنا قد قلدناه ذلك فقال لا يقدر أحد أن يتخلف عن الرحيل والنزول إلا أعوان الوزير المذكور فوقف عليهم يوماً وقد أرحل الناس وهم على طعام يأكلون فقال لهم‏:‏ ما منعكم أن ترحلوا برحيل أمير ألمؤمنين فقالوا له‏:‏ انزل يا ابن اللخناء وكل معناه‏.‏

فقال لهم‏:‏ هيهات ذهب ذلك ثم أمرهم فجلدوا بالسياط وطوف بهم في العسكر وأمر بفساطيط الوزير فأحرقت بالنار فدخل الوزير على عبدالملك شاكياً باكياً فقال‏:‏ علي به فلما دخل عليه قال ما حملك على ما فعلت فقال‏:‏ انا ما فعلت شيئاً قال‏:‏ فمن فعل قال أنت فعلت أنا يدي يدك وسوطي سوطك وما على أمير المؤمنين أن يعوض عن ذلك ولا يكسرني فيما قدمني له فعوض الوزير ما ذهب له وكان ذلك أول ما عرف من كفاية الحجاج وسطوته ثم كان له في سفك الدماء والعقوبات غرائب لم يسمع بمثلها‏.‏

ويقال إن زياد ابن أبيه أراد أن يتشبه بعمر بن الخطاب في ضبطه الأمور والقيام بالسياسات فاسرف وتجاوز الحد وأراد الحجاج أن يتشبه بزياد فأهلك ودمر فأهلكه الله ودمره‏.‏

وفي السنة المذكورة توفي الإمام الكبير السيد الشهير العبد الصالح سعيد بن جبدر الأسدي مولاهم المقري الفقيه المحدث المفسر قتله الحجاج كما تقدم في شهر شعبان‏.‏

وكان أحد علماء التابعين اخذ العلم عن عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر فقال له ابن عباس‏:‏ حدث‏.‏

فقال‏:‏ احدث وأنت هاهنا‏!‏ فقال‏:‏ اليس من نعمة الله عليك أن تحدث وأنا هاهنا‏:‏ فإن أصبت فداك وإن أخطأت علمتك وكان لا يستطيع أن يكتب مع ابن عباس في الفتيا فلما عمي ابن عباس كتب وأخذ عنه أيضاً القراءة عرضا وسمع منه التفسير وأكثر روايته عنه وروي أنه قرأ القرآن في ركعة في البيت الحرام وعن بعض السلف قال‏:‏ كان سعيد بن جبير يؤمنا في شهر رمضان فيقرأ ليلة بقراءة ابن مسعود وليلة بقراءة زيد بن ثابت وليلة بقراءة أخرى وهكذا أبداً‏.‏

وقال وفاء بن إياس قال لي سعيد بن جبير في رمضان أمسك علي القرآن فما قام من مجلسه حتى ختم وقال بعضهم كان أعلم التابعين بالطلاق سعيد بن المسيب وبالحج عطاء وبالحلال والحرام طاوس وبالتفسير مجاهد وأجمعهم لذلك سعيد بن جبير رحمة الة عليهم‏.‏

وذكر الإمام أبو نعيم الأصفهاني في تاريخ أصفهان أنه دخلها وأقام بها مدة ثم ارتحل منها إلى العراق وروى محمد بن حبيب أنه كان بأصفهان يسألونه عن الحديث ولا يحدث فلما رجع إلى الكوفة حدث فقيل له في ذلك فقال‏:‏ انشر يدك حيث تعرف وقيل للحسن البصري أن الحجاج قد قتل سعيد بن جبير فقال‏:‏ اللهم أنت على فاسق ثقيف والله لو أن من أهل المشرق والمغرب اشتركوا في قتله لكبهم الله في النار‏.‏

وقال الإمام أحمد بن حنبل قتل الحجاج سعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه ولم يسلطه الله بعده على قتل أحد‏.‏

وذكر بعضهم أنه لما أراد أن يقتله قال له‏:‏ ما اسمك‏.‏

قال‏:‏ سعيد قال ابن من قال‏:‏ ابن جبير قال الحجاج‏:‏ بل أنت شقي بن كثير قال‏:‏ الله أعلم بي إذ خلقني قال‏:‏ وجهوا به القبلة واقتلوه فلما فعلوا به ذلك قال وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين‏.‏

قال‏:‏ حولوا وجهه عن القبلة فحولوه فقال‏:‏ فأينما تولوا فثم وجه الله‏.‏

ولما قتله سال منه دم كثير فاستدعى الحجاج الأطباء وسألهم عن ذلك وعمن كان قبله فإنهم كان يسيل منه دم قليل فقالوا‏:‏ لأن هذا قتلته ونفسه معه والدم تبع النفس وغيره قتلتهم وأنفسهم ذاهبة من الخوف فلذلك دمهم قليل‏.‏

وقيل إن الحجاج لما حضرته الوفاة كان يغيب ثم يفيق ويقول‏:‏ ما لي ولسعيد بن جبير وأنه قيل له في النوم بعد موته ما فعل الله تعالى بك قال قتلني بكل قتيل قتلة واحدة وقتلني بسعيد بن جبير سبعين قتلة فإنه كان في مدة مرضه إذا نام رأى سعيد بن جبير أخذ بمجامع ثوبه يقول يا عدو الله فبم قتلتني فيستيقظ مذعوراً ويقول ما لي ولسعيد كان عمر بن جبير تسعاً وتسعين سنة وقبره يزار في واسط رضي الله عنه‏.‏

وفي السنة المذكورة توفي أبو إسحاق ابراهيم بن عبد الرحمن بن عوف روى عن أبيه وسعيد وجماعة‏.‏

وفيها توفي السيد الجليل الصفوة الفقيه العابد المجاب الدعوة مطرف بن عبدالله بن الشخير بكسر الشين والخاء المعجمتين والتشديد وسكون الياء المثناة من تحت وفي آخره راء العامري البصري روى عن علي وعمار‏.‏

وفيها توفي فقيه العراق الإمام بالاتفاق أبو عمران ابراهيم بن يزيد النخعي اخذ عن علقمة والأسود ومسروق ورأى عائشة وهو صبي ولما حضرته الوفاة جزع جزعاً شديداً فقيل له في ذلك فقال‏:‏ وأي خطر أعظم مما أنا فيه أتوقع رسولاً يرد علي إما بالجنة وأما بالنار والله لوددت أنها تجلجل في حلقي إلى يوم القيامة يعني نفسه والنخع بفتح النون والخاء المعجمة وبعدها عين مهملة قبيلة كبيرة من مذحج باليمن سميت باسم الجد لأنه انتخع من قومه أي بعد عنهم‏.‏

وفيها توفي حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري سمع من خاله عثمان وهو صغير وكان عالماً فاضلاً مشهوراً مشكوراً‏.‏

 سنة ست وتسعين

فيها قلع الله قرة بن شريك القيسي أمير مصر قيل كان ظالماً فاسقاً إذا انصرف الصناع من بناء جامع مصر دخله فدعا بالخمر والملاهي ويقول لنا الليل ولهم النهار‏.‏

وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله فيما روي عنه الوليد بالشام والحجاج بالعراق وقرة بمصر وعثمان بن حيان بالحجاز امتلأت والله الأرض جوراً‏.‏

وفيها توفي خليفتهم الوليد بن عبد الملك وكان مع ظلمه كثير التلاوة للقرآن قيل كان يختم في ثلاث ويقرأ في رمضان سبع عشرة ختمة وعظمت سعادته في الدنيا ونجاح أشياء من أمور الدين منها‏:‏ أنشأؤه جامع دمشق وافتتاح بلاد الهند في أيامه وبلاد الترك والأندلس وكثرة الصدقات وجاء عنه أنه قال‏:‏ لولا ذكر الله فعل قوم لوط في القرآن ما ظننت أن أحداً يقتله‏.‏

وفي آخرها قتل قتيبة بن مسلم الباهلي أمير خراسان بعدما وليها عشر سنين قبل خلع سليمان بن عبد الملك فقتلوه وكان بطلاً شجاعاً شهماً مقداماً هزم الكفار غير مرة وافتتح خوارزم وسمرقند وبخارى وقد كانوا كفروا وكذلك فتح فرغانة بالفاء والغين المعجمة والنون فلما مات الوليد بن عبد الملك وتولى أخوه سليمان خافه قتيبة فخرج عليه وأظهر الخلاف وكان قتيبة قد عزل وكيع بن أبي الأسود عن رياسة بني تميم فحقد عليه وكيع وسعى في تأليب الجند سراً ثم عرج عليه فقتله مع أحد عشر من أهله وفي قتله يقول جرير‏.‏

ندمتم على قتل الأعز ابن مسلم وأنتم إذا لاقيتم الله أندم لقد كنتم في غزوة في غيمة وأنتم لمن لاقيتم اليوم مغنم على أنه أفضي إلي حور جنة ويطبق بالبلوى عليكم جهنم والباهلي نسبة إلى باهلة القبيلة المشهورة وكانت العرب تستنكف من الانتساب إليها حتى قال وما ينفع الأصل من هاشم إذا كانت النفس من باهلة وقال الآخر‏:‏ ولوقيل للكلب يا باهلي عوى الكلب من لوم هذا النسب وقال قتيبة بن مسلم لهبيرة بن مسروح‏:‏ اي رجل أنت‏!‏ لو كانت أخوالك من سلول فلو بادلت‏:‏ فقال‏:‏ اصلح الله الأمير بادل بهم من شئت من العرب وجنبني باهلة‏.‏

 سنة سبع وتسعين

فيها توفي سعيد بن مرجانة صاحب أبي هريرة والفقيه طلحة بن عبدالله بن عوف الزهري قاضي المدينة وهو أحد الطلحات الموصوفين بالجود وفيها أو في سنة ثمان توفي قيس بن أبي حازم الأحمسي البجلي الكوفي وقد جاوز المائة سمع أبا بكرة وطائفة من البدريين كان من علماء الكوفة‏.‏

وفيها أو في سنة ست توفي محمود بن لبيد الأنصاري الأشهلي‏.‏

قال البخاري له صحبة وذكره مسلم غيره في التابعين وله عدة أحاديث‏.‏

قال بعض المحدثين حكمها لارسال وحج فيها بالناس خليفتهم سليمان بن عبد الملك وتوفي معه بوادي القرى أبو عبد الرحمن موسى بن نصير الأعرج الأمير الذي افتتح الأندلس وأكثر المغرب وكان من رجال العالم حزماً وعزماً ورأياً وهمة ونيلا و شجاعة واقداماً لم يهزم له جيش قط‏.‏

قلت وكان والده نصير على جيوش معه ومنزلته عنده مكينة وكان عبدالله بن مروان أخو عبد الملك بن مروان والياًعلى مصر وإفريقية فبعث ابن أخيه الوليد بن عبد الملك أيام خلافته يقول له‏:‏ ارسل معي موسى بن نصير إلى إفريقية وذلك في سنة تسع وثمانين من الهجرة وقيل سبع وسبعين فلما قدمها ومعه جماعة من الجند بلغه أن بأطراف البلاد جماعة خارجين عن الطاعة فوجه ولده عبدالله فأتاه بمائة ألف رأس - قلت هكذا هو في نسخة الأصل - وبعده قال الليث فبلغ الخمس ستين ألف رأس وهذا لا يوافق قوله مائة ألف ولا بد أن يكون أحد اللفظين غلطاً فأما أن يكون الصحيح قول الليث ويكون الجملة ثلاث مائة ألف وأما أن يصح رواية مائة ألف فيكون الخمس عشرين ألفاً او يكون غلطه الكاتب في قوله ستين ألف رأس وإنما هي ستون ألف دينار أو درهم على حسب ارتفاع القيم وانخفاضها والله سبحانه أعلم‏.‏

وقال أبو شبيب الصدفي لم يسمع في الإسلام بمثل سبايا موسى بن نصير وكانت البلاد في قحط شديد فأمر الناس بالصلاة والصوم وإصلاح ذات البين وخرج بهم إلى الصحراء ومعه سائر الحيوانات وفرق بينها وبين أولادها فوقع البكاء والصراخ والضجيج فأقام على ذلك إلى منتصف النهار ثم صلى وخطب الناس ولم يذكر الوليد ابن عبد الملك فقيل له ألا تدعو لأمير المؤمنين فقال هذا مقام لا يدعى فيه لغير الله عز وجل فسقوا وقتل من البربر خلقاً كثيراً وسبى سبياً عظيماً حتى انتهى إلى السوس الذي لايدافعه أحد ونزل بقية البربر على الطاعة وطلبوا الأمان وولي عليهم والياً واستعمل على طنجة وأعمالها مولاه طارق بن زياد البربري ومهد البلاد ولم يبق له منازع من البربر ولامن الروم وترك خلقاً كثيراً من العرب يعلمون البربر القرآن وفرائض الإسلام فلما تقرر القواعد كتب إلى طارق وهو بطنجة يأمره بغزو بلاد الأندلس في جيش من البربر ليس فيه من العرب إلا قدر يسير فامتثل طارق أمره وركب البحرمن سنته إلى الجزيرة الخضراء من الأندلس وصعد إلى جبل يعرف اليوم بجبل طارق لأنه نسب إليه لما حصل عليه وذكر عن طارق أنه كان نائماً في المركب وقت التغدية وأنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء الأربعة رضي الله عنهم يمشون على الماء حتى مروا وبشره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالفتح وأمره بالرفق بالمسلمين والوفاء بالعهد‏.‏

وكان صاحب طليطلة ومعظم بلاد الأندلس ملكاً يقال له الذريق ولما نزل طارق من الجبل بالجيش الذي معه كتب نائب للذريق يقال له تذمير أنه قد وقع بأرضنا قوم لا ندري من السماء هم أم من الأرض فأقبل الذريق في سبعين ألف فارس ومعه العجل يحتمل الأموال والمتاع وهو على سريره بين دابتين عليه قبة مكللة بالدر والياقوت والزبرجد‏.‏

فلما دنا من طارق وعسكره قال طارق لمن معه أين المفر والبحرمن ورائكم والعدو أمامكم فليس عليكم والله إلا الصدق والصبر وليس لكم وزير إلا سيوفكم فلما التقوا حمل طارت على سرير الذريق وقد رفع على رأسه رواق ديباج يظله وهو في غاية من النبوة والأعلام وبين يديه المقاتلة والسلاح وحمل أصحاب طارق معه فتفرقت المقاتلة من بين يدي الذريق فخلص إليه طارق فضربه بالسيف على رأسه فقتله على سريره فلما رأى أصحابه مصرع ملكهم اقتحم الجيشان وكان النصر للمسلمين ولم يزل طارق يفتح البلاد و وموسى بن نصير التحق به إلى أن بلغ ساحل البحر المحيط‏.‏

 سنة ثمان وتسعين

فيها غزا المسلمون قسطنطينية وعلى المسلمين مسلمة بن عبد الملك وفيها افتتح يزيد بن المهلب جرجان‏.‏

وتوفي أبو عمرو الشيباني الكوفي وله مائة وعشرين سنة روى عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما‏:‏ وكان يقرىء الناس بمسجد الكوفة‏.‏

وفيها توفي أبو هاشم عبدالله بن محمد ابن الحنفية الهاشمي رحمة الله عليها‏.‏

وفيهاأوفي التي بعدها توفي عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي الفقيه العابد أدرك عمر وسمع من عائشة رضي الله عنهما‏.‏

وفيها على الصحيح توفي عبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود الهذلي الضريرأحد فقهاء المدينة السبعة وفيها توفي كنزالعلم كريب مولى ابن عباس كان كثيرالعلم كبيرالقدر قال موسى بن عقبة وضع عندنا كريب عدل بعيرمن كتب ابن عباس وفيها توفيت الفقيهة عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية وكانت في حجرعائشة رضي الله عنهما فاكثرت في الرواية عنها‏.‏

 سنة تسع وتسعين

فيهاعلى اختلاف تقدم ذكره توفي أبوالأسود ظالم بن عمروالديلي بكسر الدال المهملة وبعدها مثناة من تحت مهموزة من فوق ويقال‏:‏ بضم الدال بعدها واو مهموزة من فوق نسبة إلى الديل قبيلة من كنانة بفتح الهمزة في النسبة قال وإنما فتحت لئلا يتوالى الكسرات كما قالوا في النسب إلى نمرة نمري بالفتح وهي قاعدة مطردة والدال اسم دابة بين ابن عرس والثعلب‏.‏

وفي اسمه ونسبه اختلاف كثير كان من سادات التابعين وأعيانهم وصاحباً لعلي أبي طالب رضي الله عنه معه شهد وقعة صفين وهو بصري من أكمل الرجال رأياً وأرجحهم عقلاً وهو أول من وضع النحو وفي سبب ذلك اختلاف كثير‏.‏

قيل‏:‏ ان علياًرضي الله عنه وضع له‏:‏ الكلام كله ثلاثة اسم وفعل وحرف ثم دفعه إليه وقال‏:‏ وتم على هذا وقيل إنه كان يعلم أولاد زياد ابن أبيه وهو والي العراقين يومئذ فجاء يوماً ماوقال له‏:‏ اصلح الله الأمير إني أرى العرب قد خالطت هذه الأعاجم وتغيرت ألسنتهم أفتأذن لي أن أضع للعرب ما يعرفون أو يقيمون به كلامهم قال‏:‏ لا فجاء رجل إلى زياد وقال‏:‏ اصلح الله الأمير توفي أبونا وترك بنين فقال‏:‏ ادعوا أبا الأسود فلما حضر قال ضع للناس الذي نهيتك أن تضع لهم‏.‏

وقيل إنه دخل يوماً بيته فقال له بعض بناته يا أبة ما أحسن السماء وذكرت ذلك برفع النون من أحسن وجرت الهمزة من السماء فقال‏:‏ يا بنية نجومها فقالت إني لم أرد أي شيء منها احسن إنما تعجبت من حسنها فقال اذن قولي ما أحسن السماء وحينئذ وضع النحو قلت وإنما رد عليها لأنها رفعت النون من أحسن وجرت الهمزة من آخر السماء ومثل هذا يقع استفهاماً عن أي شيء في السماء أحسن فلما فهم منها أنها لم ترد ذلك وإنما أرادت التعجب من حسن السماء أمرها أن تفتح النون والهمزة المذكورتين معاً كما هو المعروف من وضع العربية في التعجب‏.‏

وحكى ولده أبو حرب‏:‏ قال أول باب رسم والدي التعجب‏.‏

وقيل لأبي الأسود‏:‏ من أين لك هذا العلم يعنون النحو قال‏:‏ تلقنت حدوده من علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏.‏

وقيل إن أبا الأسود كان لا يخرج شيئاً أخذه عن علي بن أبي طالب حتى بعث إليه زياد المذكور أن أعمل شيئاً يكون للناس إماماً ويعرف به كتاب الله عز وجل فاستعفاه أبو الأسود من ذلك حتى سمع أبو الأسود قارئاً يقرأ إن الله بريء من المشركين ورسوله بالكسر قال ما ظننت أن أمر الناس يؤول إلى هذا فرجع إلى زياد فقال أفعل ما أمر به الأمير فليعني كاتباً لقناً يفعل ما أقول فأتي بكاتب من عبد القيس فلم يرضه فأتي بآخر فقال له أبو الأسود إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحررف فانقط بين نقطة فوق وإن ضممت فمي فانقط بين يدي الحروف فإن كسرت فاجعل النقط من تحت ففعل ذلك وإنما سمي النحو نحو الآن أبا الأسود المذكور قال استأذنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن أضع نحو ما وضع فسمي لذلك نحواً والله أعلم‏.‏

وكان لأبي الأسود بالبصرة داراً وله جاراً يتأذى منه في كل وقت فباع الدار فقيل له‏:‏ بعت دارك‏!‏ فقال‏:‏ بل بعت جاري‏.‏فأرسلها مثلاً قلت يعني سار لفظه هذا مثلاً لمن باع الدار هرباً من الجار فيقول ما بعت داري بل بعت جاري أو بعت جاري لا داري‏.‏

ومن كلام أهل المعرفة الجار قبل الدار أي اعرف جوارك قبل أن تشتري دارك‏.‏

ودخل أبو الأسود يوماً على عبيدالله بن أبي بكرة نقيع بن الحارث بن كلدة الثقفي وقيل على المنذر بن جارود وعليه جبة رثة كان يكثر لبسها فقال يا أبا الأسود أما تمل لبس هذه الجبة فقال رب مملوك لا يستطاع فراقه فلما خرج من عنده سير إليه مائة ثوب فكان ينشد بعد ذلك‏:‏ كساني ولم أستكسه فحمدته أخ لك يعطيك الجزيل وناصر وان أحق الناس إن كنت شاكراً بشكرك من أعطاك والعرض وافر ويروى وناصر بالنون وياصر بالياء المثناة من تحت ولكل واحد منها معنى فمعناه بالنون ظاهر لأنه عن النصرة وبالياء من التعطف والحنو يقال فلان ياصر على فلان إذا كان يعطف عليه ويمن وله أشعار كثيرة فمن ذلك قوله‏:‏ وما طلب المعيشة بالتمني ولكن ألق دلوك في الدلاء يجيء بملئهاطوراً وطورا يجيء بحمأة وقليل ماء ومن شعره أيضاً وله ديوان شعر‏:‏ صبغت أمية في الدماء أكفنا وطوت أمية دوننا دنياها قلت كأنه يعني بني أمية أوردونا معارك القتال وبخلوا علينا بالمال‏.‏

ويحكى أنه أصابه فالج فكان يخرج إلى السوق يجر رجله وكان موسراً ذا عبيد و اماء فقيل له قد أغناك الله سبحانه عن السعي في حاجتك فلو جلست في بيتك قال لا ولكني أخرج وأدخل فيقول الخادم‏:‏ قد جاء ويقول الصبي‏:‏ قد جاء ولو جلست في البيت فبالت الشاة علي ما منعها أحد عني قلت يحتمل قوله قد جاء معنيين أحدهما الاشارة إلى أنه يجيء بشيء يفرحون به من السوق فيكون في ذلك تجدد فرح لهم بعد فرح والثاني أنهم يخافون منه فمجيئه يجدد لهم خوفاً بعد خوف ويكون ذلك وسيلة إلى التأدب به و الحذرمنه وآخر كلامه يدل على المعنى الثاني والله أعلم‏.‏

و حكى خليفة بن خياط أن عبدالله بن عباس كان عاملاً لعلي رضي الله عنهما على البصرة فلما شخص إلى الحجاز استخلف أبا الأسود عليها فلم يزل حتى قتل علي رضي الله عنه وسمع رجلاً يقول من يعشي الجائع فقال‏:‏ علي به فعشاه ثم ذهب ليخرج فقال أين تريد قال‏:‏ اهلي قال‏:‏ هيهات ما عشيتك إلا على أن لا تؤذي المسلمين الليلة ثم وضع في رجله القيد حتى أصبح وتوفي أبو الأسود بالبصرة‏.‏

وفيها توفي محمود بن الربيع الأنصاري الخزرجي كان قد عقل مجة مجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وجهه من بير في دارهم وهو ابن أربع سنين‏.‏

وفيها توفي نافع بن جبير بن مطعم النوفلي وكان هو وأخوه محمد من علماء قريش وأشرافهم توفي قريباً من أخيه‏.‏

وفيها توفي عبدالله بن محيريز الجمحي المكي نزيل بيت المقدس وكان عابد الشام في زمانه رحمةالله عليه‏.‏

وقال رجاء بن حيوة إن تفخر علينا أهل المدينة بعابدهم ابن عمر فإنا نفخر عليهم بعابدنا ابن محيريز وإن كنت لأعد بقاءه أماناً لأهل الأرض‏.‏

وفي عاشر صفر توفي خليفتهم سليمان بن عبد الملك الأموي وله خمس وأربعون سنة وكانت خلافته أقل من ثلاث سنين وكان فصيحاً فهماً محباً للعدل والغزو ذا همة عالية جهز الجيوش لحصار القسطنطينية وسافر فنزل على قنسرين رداً لهم وقرب ابن عمه عمر بن عبد العزيز وجعله وزيره ومشيره ثم عهد إليه بالخلافة وكان أبيض مليح الوجه مقرون الحاجبين يضرب شعره منكبيه‏.‏

قلت حكي أنه قدم عليه من بلاد الهند حكيم فقال له‏:‏ بم جئتني قال‏:‏ جئتك بثلاث قال‏:‏ ما هي قال‏:‏ تأكل ولا تشبع وتنكح ولا تفتر وتسود شعرك ولا تبيض فقال له‏:‏ كلهن يرغب العاقل عنهن‏.‏

أما كثرة الأكل فأقل ما في ذلك كثرة دخول إلى المرحاض وشم الروائح الخبيثة وأما كثرة النكاح فأقل ما في ذلك أنه يقبح لمثلي خليفة يبقى أسيرامرأة وأما تسويد الشر فقبيح أن يسود المرء نوراً أكرم الله تعالى به عبده المسلم مشيراً إلى الحديث من شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة الحديث‏.‏

 سنة مائة

فيها توفي أبو إمامة أسعد بن سهل بن حنيف الأنصاري ولد في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وروى عن عمر وجماعة وكان من علماء المدينة‏.‏

وفيها وقيل في سنة عشر ومائة توفي أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني الليثي بمكة وهوآخر من رأى النبي صلى الله عليه وآله رسلم موتاً ويروى عنه هذا البيت‏.‏

و ما شاب رأسي عن سنين تنابعت علي ولكن شيبتني الوقائع وتوفي بسر بن سعيد المدني الزاهد العابد المجاب الدعوة روى عن عثمان وزيد بن ثابت وفيها وقيل بعدها بعام أو قبلها توفي سالم بن أبي الجعد الكوفي من مشاهير المحدثين‏.‏

وفيها توفي خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري المدني المفتي أحد الفقهاء السبعة تفقه على والده‏.‏

وتوفي أبو عثمان النهدي عبد الرحمن بن مل بالبصرة وكان قد أسلم وأدى الزكاة الى عمال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحج في الجاهلية وعاش مائة وثلاثين سنة صحب سلمان الفارسي اثنتي عشرة سنة‏.‏

وفيها توفي شهر بن حوشب الأشعري قرأ القرآن على ابن عباس وكان كثير الرواية حسن الحديث‏.‏

وفيها توفي مسلم بن يسار روى عن ابن عمر وغيره وكان من عباد البصرة وفقهائها قال ابن عون‏:‏ كان لا يفضل عليه أحد في ذلك الزمان وقال غيره‏:‏ كان ثقة فاضلاً عابداً ورعاً‏.‏

وفيها توفي عيسى بن طلحة بن عبيدالله التيمي أحد أشراف قريش وحكمائها وعقلائها وروى عن أبيه وجماعة‏.‏

 سنة إحدى ومائة

في رجب منها توفي السيد الفاضل الإمام العادل أميرالمؤمنين وخامس الخلفاء الراشدين أبو حفص عمر بن عبد العزيز بن مروان الأموي بدير سمعان من أرض المعرة وفي موته المذكور يقول جرير نظمه المشهور‏:‏ رددت عن عمر الخيرات مصرعه بدير سمعان لكن يغلب القدر وجملة عمره أربعون سنة وخلافته سنتان وخمسة أشهر كأيام مدة خلافة الصديق وكان أبيض جميلاً نحيف الجسم حسن اللحية بجبهته أثر حافي فرس شجه وهو صغير وكان يقال له أشج بني أمية حفظ القرآن في صغره فبعثه أبوه من مصر فتفقه في المدينة حتى قيل إنه بلغ رتبة الاجتهاد‏.‏

ومن كلامه المنقول عنه أنه قال‏:‏ ينبغي أن يكون في القاضي خمس خصال‏:‏ العلم بما يتعلق به والحلم عند الخصومة والنزهة عند الطمع والاحتمال للأئمة والاستشارة لذوي العلم‏.‏

ومناقبه كثيرة شهيرة وقد صنف فيها غير واحد من العلماء تصانيف مستقلات مشتملات على كثير من المحاسن الغراب وجده لأمه عاصم بن عمر بن الخطاب وجدته هي البنية التي سمعها عمربن الخطاب في الليل تقول لأمها المقالة المشهورة في قصة اللبن لما أمرتها أمها أن تخلط الماء في اللبن فقالت لها البنية أما سمعت منادي عمر بالأمس ينهي عن ذلك فقالت أمها مقالاً معناه أن عمرلا يدري عنك فقالت البنية‏:‏ والله ما كنت لأطيعه علانية وأعصيه سراً‏.‏

وعمر رضي الله عنه يسمع كلامهما فأعجبه عقل هذه البنية ودينها فزوجها من ابنه المذكور‏.‏

وقال السيد الجليل رجاء بن حيوة بت ليلة عند عمر بن عبد العزيز‏:‏ فهم السراج أن يطفأ فقمت إليه لأصلحه فأقسم علي عمر أن أقعد فقام هو وأصلحه فقلت له‏:‏ تقوم أنت يا أمير المؤمنين‏:‏ فقال‏:‏ قمت وأنا عمر ورجعت وأنا عمر‏.‏

وقال قومت ثياب عمربن عبد العزيز وهو يخطب باثني عشر درهماً كانت قباء وعمامة وقميصاً وسراويل ورداء وخفين وقلنسوة‏.‏

وروي أنه كان يؤتي بالحلة قبل أن يلي الخلافة بألف درهم فيقول ما أحسنها لولا خشونة فيها‏:‏ ويؤتي بالحلة حين ولي الخلافة بأربعة أو خمسة دراهم فيقول‏:‏ ما أحسنها لولا نعومة فيها فسئل عن ذلك فقال‏:‏ إن لي نفساً ذواقة تواقة كلما ذاقت شيئاً تاقت إلى ما فوقه فلم تزل تذوق وتتوق إلى أن ذاقت الخلافة فتاقت إلى ما فوقها ولم يكن في الدنيا شيء فوقها فتاقت إلى ما عند الله تعالى في الدار الآخرة وذلك لا ينال إلا بترك الدنيا‏.‏

وروي أنه دخل عليه مسلمة بن عبد الملك وهو مريض فرأى ثوبه وسخاً فقال لزوجته فاطمة بنت عبد الملك‏:‏ اغسلوا ثوب أمير المؤمنين فقالت‏:‏ نفعل إن شاء الله تعالى ثم كذلك لم يزل يدخل عليه والثوب على حاله فخاصم أخته فقالت له‏:‏ إنه ليس ثوب غيره إذا غسلناه لم يجد ثوباً يلبسه‏.‏

وروي أن سليمان بن عبد الملك استشار في مرض موته السيد الجليل رجاء بن حيوة فيمن يعهد إليه بأمر الخلافة بعده فأشار إليه بعمر بن عبد العزيز فقال‏:‏ كيف يمكن ذلك وأولاد عبد الملك لا يطيعون فقال‏:‏ افعل ما آمرك به والأمر يتصلح إن شاء الله تعالى‏.‏فقال‏:‏ ما تأمرني فقال‏:‏ اكتب كتاب العهد له واختمه‏.‏

ففعل ذلك ثم قال له‏:‏ مر منادياً فليناد بالناس يحضرون عندك فإذا حضروا فمرهم فليبايعوا لمن عهدت له فيه ففعل ذلك‏.‏

قال رجاء بن حيوة‏:‏ فلما انصرفنا من عنده إذا بمركب خلفي فالتفت فإذا بهشام بن عبد الملك فقال لي يا رجاء‏:‏ اعلمني من صاحب العهد فإن أكن أنا هو عرفت ذلك والا تكلمت قبل أن يفرط الأمر‏.‏

قال‏:‏ فأجبته بجواب أطمعته فيه من غير تصريح فسكت وانصرف ثم التفت‏:‏ فإذا أنا بعمر بن عبد العزيز‏.‏

فقال لي‏:‏ يا رجاء اعلمني لمن كتب هذا العهد فإن لمن لغيري سكت وإن يكن لي تكلمت في صرفه عني ما دام في الأمر سعة‏.‏

قال‏:‏ فأوهمته مراده فلما توفي سليمان أمرت من عنده يكتم موته وقلت مروا منادياً فليناد بالناس ليبايعوا أمير المؤمنين ثانياًعلى السمع والطاعة لمن في الكتاب ففعلوا ذلك فلما حضروا وبايعوا قلت أعظم الله أجوركم في أمير المؤمنين ثم فتح الكتاب فإذا صاحب العهد عمر بن عبد العزيز فوخم لذلك بنو عبد الملك ولم يقدروا يفعلون شيئاً‏.‏

ثم أخرجت جنازته فخرج بنو عبد الملك ركباناً وخرج عمر بن عبد العزيز ماشياً‏.‏

فلما رجعوا من دفنه أرسل عمر إلى نسائه رسولاً يقول لهن من أرادت منكن الدنيا فلتلحق بأهلها فإن عمر قد جاءه أمر يشغله قال‏:‏ فسمعت النوائح يومئذ في بيت عمر بن عبد العزيز وعدله رضي الله عنه وحسن سيرته الحسناء وأوصافه الجميلة قد ملأت الوجود شهرة رحمة الله تعالى ورضوانه عليه‏.‏

وفيها توفي أبو صالح السمان ذكوان صاحب أبي هريرة رحمه الله‏.‏

وفيها أو في التي قبلها توفي ربعي بن حراش أحد علماء الكوفة وعبادها وقيل إنه لم يكذب قط قال‏:‏ قد آلى أن لا يضحك حتى يعلم أفي الجنة هو أو في النار‏.‏

وفيها وقيل في سنة خمس وتسعين توفي الحسن بن محمد ابن الحنيفة الهاشمي العلوي ورد أنه صنف كتاباً في الأرجاء ثم ندم عليه وكان من عقلاء قومه وعلمائهم‏.‏

وفيها استعمل يزيد بن عبد الملك أخاه مسلمة على امرة العراقين وأمره بمحاربة يزيد بن المهلب وكان قد خرج واستقل بالدعوة لنفسه فحاربه حتى قتل يزيد المذكور في السنة الآتية كما سيأتي‏.‏

وممن توفي بعد المائة ابراهيم بن عبدالله بن جبير المدني وابراهيم بن عبدالله بن سعيد بن عياش الهاشمي المدني والقطامي الشاعر المشهور ومعاذة العدوية الفقيهة العابدة بالبصرة وبشير بن يسار المدني الفقيه وعبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري وحفصة بنت سيرين وعائشة بنت طلحة التيمية التي أصدقها مصعب بن الزبير مائة ألف دينار وكانت من أجمل النساء وهي إحدى عقيلتي قريش اللتين تمناهما مصعب فنالهما كما تقدم والثانية سكينة بنت الحسين وذو الرمةالشاعر المشهور وأبو الأشعث الصنعاني الشامي وزياد الأعجم الشاعر وأبو بكر بن أبي موسى الأشعري القاضي‏.‏

 سنة اثنتين ومائة

وفيها توفي يزيد بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي وكان أمير البصرة لسليمان بن عبد الملك فلما ولي عمر بن عبد العزيز عزله وسجنه فلما توفي عمر أخرجه خواصه من السجن فوثب على البصرة وفر منه عاملها‏.‏

عدي بن أرطأة الفزاري ونصب يزيد رايات سوداً وتسمى بالقحطاني وقال ادعو إلي سيرة عمر بن الخطاب فجاء مسلمة وحاربه ثم قتل يزيد بن المهلب في صفر وكان جواداً ممدوحاً كثير الغزو والفتوح‏.‏

قال ابن خلكان وأجمع علماء التاريخ أنه لم يكن في دولة بني أمية أكرم من بني المهلب كما لم يكن في دولة بني العباس أكرم من البرامكة وقال بعضهم لما حمل رأس يزيد بن المهلب إلى يزيد بن عبد الملك نال منه بعض جلسائه فقال مه إن يزيد طلب جسيماً وركب عظيماً ومات كريمأ‏.‏

وذكر ابن الجوزي في كتاب الأذكياء أن يزيد بن المهلب وقعت عليه حية فلم يرفعها عن نفسه فقال أبوه ضيعت العقل من حيث حفظت الشجاعة‏.‏

وفيها توفي يزيد بن أبي مسلم الثقفي مولاهم وكان مولى الحجاج بن يوسف الثقفي كاتبه وكان فيه كفاية ونهضة وقدمه الحجاج بسبب ذلك و لما حضرته الوفاة استخلفه بالعراق وأقره الوليد بن عبد الملك وقيل إن الوليد هو الذي ولاه بعد موت الحجاج وقال الوليد‏:‏ يوماً مثلي ومثل الحجاج ويزيد بن أبي مسلم كرجل ضاع له درهم فوجد ديناراً‏.‏

قلت مثل في هذا الحجاج بالدرهم ويزيد بالدينار فلما مات الحجاج خلفه يزيد فكأنه وجد ديناراً بعد ضياع الدرهم لما رأى من فضل يزيد وحسن عقله وبلاغة لسانه ولم مات الوليد وتولى أخوه سليمان عزل يزيد المذكور واستحضره فرآه دميماً كبير البطن قبيح الوجه فقال لعن الله من أشركك في أمانته وحكمك في دينه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين لا تقل فإنك رأيتني والأمور مدبرة عني ولو رأيتني وهي مقبلة علي لاستعظمت ما استصغرت ولاستجللت ما احتقرت فقال سليمان‏:‏ قاتله الله ما أشد عقله وأعذب لسانه‏.‏

ثم قال سليمان‏:‏ يا يزيد أترى صاحبك الحجاج يهوي بعد في نار جهنم أم قد استقر في قعرها فقال‏:‏ لا تقل ذلك يا أمير المؤمنين فإن الحجاج عاد عدوكم ووالى وليكم وبذل مهجته لكم فهو في يوم القيامة عن يمين عبد الملك وعن يسار الوليد فاجعله حيث أحببت‏.‏

وفي رواية أخرى‏:‏ يحشر بين اثنين أبيك وأخيك فضعهما حيث شئت‏.‏

قال سليمان‏:‏ قاتله الله أوفى لصاحبه إذا اصطنعت الرجال فلتصطنع مثل هذا‏.‏

فقال‏:‏ بعض الحاضرين‏:‏ اقتله يا أميرالمؤمنين فقال يزيد‏:‏ من هذا قالوا فلان ابن فلان فقال‏:‏ والله لقد بلغني أن أمه ما كان يوراي شعرها أذنيها فما تمالك سليمان إن ضحك وأمر بتخليته ثم كشف عنه سليمان فلم يجد له خيانة في دينار ولا درهم فهم باستكتابه فقال له عمر بن عبد العزيز‏:‏ أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن تحيي ذكر الحجاج باستكتابك كاتبه فاعلمه سليمان أنه لم يخن قط في دينار ولا في درهم فأجابه عمر بأن إبليس لم يخن فيهما وقد أهلك هذا الخلق فتركه سليمان‏.‏

وفيها توفي بخراسان الضحاك بن مزاحم الهلالي صاحب التفسير فقيه مكتب عظيم فيه ثلاثة آلاف صبي وكان يركب حماراً يدورعليهم إذا أعيى‏.‏

وفيها لما قتل يزيد بن المهلب في المعركة عمد ابنه معاوية فأخرج من الجيش عدي بن أرطأة وجماعة فذبحهم صبراً فقال الأصمعي‏:‏ إن الحجاج قبض على يزيد وأخذه بسوء العذاب يعني في زمن ولاية الحجاج على العراق قال فسأله أن يخفف عنه العذاب على أن يعطيه كل يوم مائة ألف درهم فإن أداها ولا عذبه في الليل أوقال إلى الليل فجمع يوماً مائة ألف درهم ليشتري بها نفسه من عذاب ذلك اليوم فدخل عليه الأخطل الشاعر فقال‏:‏ أبا خالد نادت حراسان بعدكم وقال ذووالحاجات أين يزيد فلا نظر الراؤون بعدك منظراً ولا اخضر بالمروين بعدك عود فما السرير الملك بعدك بهجة ولا الجواد بعد جودك جود قال‏:‏ فأعطاه المائة الألف فبلغ ذلك الحجاج فدعى به وقال‏:‏ أكل هذا الكرم وأنت بهذه الحالة‏!‏ قد وهبت لك عذاب يومك وما بعده‏.‏

 سنة ثلاث ومائة

فيها توفي عطاء بن يسار المدني الفقيه مولى ميمونة أم المؤمنين كان إماماً روى عن كبار الصحابة وفيها توفي الإمام أبو الحجاج مجاهد بن جبر المكي عن نيف وثمانين سنة قيل‏:‏ وكان أعلمهم بالتفسير قال‏:‏ قرأت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة وقال لي ابن عمر‏:‏ وودت أن نافعاً يحفظ حفظك وقال سلمة بن كهيل‏:‏ ما رأيت أحداً أراد لهذا العلم وجه الله إلا عطاء وطاوساً ومجاهداً‏.‏

وفيها توفي مصعب بن سعد بن أبي وقاص الزهري كان فاضلاً كثير الحديث‏.‏

وفيها توفي موسى بن طلحة بن عبيدالله التيمي روى عن عثمان ووالده وقال أبوحاتم‏:‏ هو أفضل إخوته بعد محمد وكان يسمى في زمانه المهدي‏.‏

وفيها توفي مقرئ الكوفة يحيى بن وثاب الأسدي مولاهم اخذ عن ابن عباس وطائفة قال الأعمش‏:‏ اذا رأيته قد جاء قلت هذا قد وقف للحساب يعد ذنوبه رحمهما الله تعالى‏.‏

وفيها توفي يزيد بن الأصم العامري ابن خالة ابن العباس روى عن خالته عن ميمونة وطائفة‏.‏

 سنة أربع ومائة

توفي فيها وقيل في التي قبلها وقيل بعدها فجأة الحبر العلامة أبو عمرو وعامر بن شراحيل السعبي الكوفي وله بضع وثمانون سنة‏.‏

قال ابن المديني‏:‏ ابن عباس في زمانه والشعبي في زمانه وسفيان الثوري في زمانه قيل جد الشعبي من إقبال اليمن من حمير وهو تابعي جليل القدر وافي العلم روي أن ابن عمر مر به يوماً وهو يحدث بالمغازي وقال‏:‏ شهدت القوم وهو أعلم بها مني‏.‏

وحكى الشعبي قال أنفذني عبد الملك بن مروان إلى ملك الروم فلما وصلت جعل لا يسألني إلا أجبته وكانت الرسل لا تطيل عنده فحبسني أياماً كثيرة حتى استحببت خروجي فلما أردت الانصراف قال لي من أهل بيت المملكة أنت فقلت‏:‏ لا ولكنني رجل من العرب في الجملة فهمس بشيء فرفعت إلي رقعة وقال‏:‏ اذا أديت الرسائل إلى صاحبك فأوصل إليه هذه الرقعة قال‏:‏ فأديت الرسالة عند وصولي إلى عبد الملك ونسيت الرقعة فلما صرت في بعض الدار أريد الخروج تذكرتها فرجعت فأوصلتها إليه فقال‏:‏ قرأها وقال لي‏:‏ اقال لك شيئاً قبل أن يدفعها إليك قلت‏:‏ نعم‏.‏

قال لي‏:‏ من أهل بيت المملكة أنت قلت‏:‏ لا ولكني من العرب في الجملة ثم خرجت من عنده فلما بلغت الباب رددت قال لي‏:‏ اتدري ما في الرقعة قلت‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فاقرأها فقرأتها فإذا فيها عجبت من قوم فيهم مثل هذا كيف ملكوا غيره فقلت‏:‏ والله لو علمت ما حملتها وإنما قال هذا لأنه لم يرك‏.‏

قال‏:‏ افتدري لم كتبها قلت‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ حسدني عليك وأراد أن يغريني بقتلك فتأدى ذلك إلى ملك الروم وقال‏:‏ ما أردت إلا ما قال‏.‏

قلت وقول الشعبي وإنما قال هذه لأنه لم يرك صدر عن بلاغة فهم ثاقب واق من الوقوع في المغاضب أعني أنه مدح عبد الملك بما سكن به ثوران الغضب المؤدي عنذ هيجانه إلى سفك الدماء والعطب وذلك أن مدح ملك الروم للإمام الشعبي مشتمل على أمرين خطيرين‏:‏ احدهما أنه رفعه رفعاً ينحط به فضل عبد الملك وحينئذ يكره أن يبقى مرفوعاً ويقتضي أن يكون في جنبه موضوعاً فلما مدحه الشعبي فكأنه قال‏:‏ لو رأى فضلك لاحتقر فضلي في جنب فضلك وكان ذلك سبباً لتسكين عبدالملك وحقن دم الشعبي‏.‏

والثاني أن الرومي أوهم عبد الملك أن الشعبي أحق بالملك منه فخشي أن يؤول الأمر إلى انتقال الملك منه إليه كما خشي هارون الرشيد أن ينتقل ملكه إلى الأمام الشافعي لما جرى من الفضائل فجرى له معه ما جرى كما هو معررف في سيرة الشافعي‏.‏

فلما مدح الشعبي عبد الملك وخلع عن نفسه خلعة الفضل وألبسها إياه وكأنه قال‏:‏ تاج الملك لا يصلح إلا لك فعند ذلك سحكنت نفس عبد الملك وسلم الشعبي من الوقوع في المهالك‏.‏

وقال الزهري‏:‏ العلماء أربعة ابن المسيب بالمدينة والحسن بالبصرة والشعبي بالكوفة ومكحول بالشام‏.‏

وذكر بعض المؤريخين أن الحجاج قال له يوماً‏:‏ كم عطاك في السنة قال‏:‏ الفين فقال‏:‏ كم عطاؤك قال‏:‏ الفان‏.‏

فقال‏:‏ كيف لحنت أولاً قال‏:‏ لحن الأمير فلحنت فلما أعرب أعربت وما أمكن أن يلحن الأمير وأعرب أنا فاستحسن ذلك منه وأجازه قلت وأراد بقوله لحن الأمير‏:‏ قول الحجاج‏.‏

بغير واو ولا مد بين الألف والكاف وكان مزحاً‏.‏

وقد اشتهر عن الشعبي أنه قال‏:‏ ما أروي شيئاً أو قل ما أحفظ أقل من الشعر ولوشئت أن أنشده شهراً ولا أعيد بيتاً لفعلت‏.‏

وقال أبو بكر الهذلي للشعبي‏:‏ اتحب الشعر قال‏:‏ نعم‏.‏

فقال‏:‏ اما إنه يحبه فحول الرجال ويكرهه مؤنثهم‏.‏

وقال الشعبي ما أودعت قلبي شيئاً فخانني وقال الشعبي‏:‏ انما الفقيه من ورع عن محارم الله تعالى والعالم من خاف الله عز وجل وقال‏:‏ اتقوا الفاجر من العلماء والجاهل من المتعبدين‏.‏

قال‏:‏ ولقد أدركت خمس مائة أو أكثر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهم عمر وعلي رضي الله عنهم‏.‏

وحكي أنه دخل على عبد الملك بن مروان فقال له‏:‏ انشدني أحكم ما قالته العرب وأوجزه فقال قول امرىء القيس‏:‏

صبت عليه وما تنصب عن أمم ** إن الشفاء على الأشقين مكتوب

وقول زهير‏:‏

ومن يجعل المعروف من دون عرضه ** يقره ومن لا يتقي الشتم يشتم

وقول النابغة‏:‏

ولست بمستبق أخاً لا تلمه ** على شعث أي الرجال المهذب

وقول عدي بن زيد‏:‏

وقوله طرفة بن العبد‏:‏

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ** ويأتيك بالأخبار من لم تزود

وقول الحطيئة‏:‏

من يفعل الخير لا يعدم جوائزه ** لا يذهب الخير بين الله والناس

مع أبيات أخرى من أشعار العرب رغبت في حذفها أختصاراً‏.‏

وقال الشعبي‏:‏ وقد قيل له‏:‏ ما تقول في النابغة فقال‏:‏ خرج عمر بن الخطاب وببابه وفد غطفان فقال يا معشرغطفان أي شعرائكم الذي يقول‏:‏ حلفت قلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب لأن كنت قد بلغت عني رسالة لمبلغك الواشي أغش وأكذب ولست بمستبق أخاً لا تلمه على شعث أي الرجال المهذب قالوا‏:‏ النابغة يا أمير المؤمنين‏.‏

قال‏:‏ فأيكم الذي يقول‏:‏ وإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلت أن المنتأى عنك واسع مع أبيات أخرى سأل عن قائلها فقالوا‏:‏ النابغة يا أمير المؤمنين فقال‏:‏ هذا أشعر شعرائكم‏.‏

انتهى مختصراً‏.‏

وقال أبو العيناء‏:‏ دخل الشعبي على الحجاج فقال‏:‏ يا شعبي أدب وافر وعقل فاخر‏.‏

قال‏:‏ صدقت أيها الأمير العقل عزيزة والأدب تكلف ولولا أنتم معشر الملوك ما تأدبنا قال‏:‏ فالمنة لنا في ذلك دونكم قال‏:‏ صدقت أيها الأمير‏.‏

قال‏:‏ وكنا مع المغيرة بظهرالكوفة فقيل له هذا دير هند فقال‏:‏ لو دخلناه فدخلنا فإذا هي جالسة عليها ثياب صوف سود لم أر قط أجمل منها فقال لها المغيرة‏:‏ هل لك فيما أحل الله تعالى فقالت‏:‏ كأنك أردت أن يقال تزوج المغيرة هند ابنة النعمان ان ذلك غير كائن إليك فاخرج‏.‏

قال‏:‏ وخرجنا مع زياد بعد ذلك إلى ظاهر الكوفة فمر بدير هند فقيل له هذا دير هند فقال‏:‏ ادخلوا بنا فدخلنا فإذا هند وأختها جالستان عليهما ثياب صوف سود‏.‏

قال الشعي فما أنسى جمالها فقال زياد‏:‏ يا هند حدثيني عن ملككم وما كنتم فيه فقالت‏:‏ اجمل أم أفسر قال‏:‏ اجملي قالت‏:‏ اصبحنا وكل من رأيت لنا عبيد وأمسينا وعدونا يرحمنا‏.‏

قلت لقد أبدعت في بلاغة هذا الإيجاز وضمنت بمختصره المعاني الكثيرات الغزار فانظر إلى ما أدرجت تحت مملكة انقاد لها الإنام عبيداً وطوت تحت زوال نعم يرثي من زوالها من كان حسوداً وقصرت طول زمان ملك طال أشهراً وسنينا يقولها عند وصف ذلك‏:‏ فأصبحنا وأمسينا فانظر إلى بعد التفاوت بين هذه الأطراف وما جمعت في ذلك من الحسن المقابل بالاعتراف ولعل مراد الإمام الشعبي رحمه الله تعالى بقوله‏:‏ فما أنسى جمالها أي في هذا الخطاب المشتمل على أحسن الجواب ومما يدل على ذلك أن انسياق الكلام كان في حكاية الشعبي‏:‏ الإيجاز في الخطاب وحسن النظام وقد صرحت في بعض قصائدي أن المحاسن المعنوية تفضل على المحاسن الجسمية‏.‏

وقال المغيرة استقضى الشعبي والحسن في أيام عمر بن عبد العزيز فشكيا جميعاً فعزلا‏:‏ قلت هذا النقل غريب لا يكاد يعرف والشعبي نسبة إلى شعب بفتح الشين المعجمة وسكون العين المهملة قال ابن خلكان بطن من همدان وقال الجوهري في الصحاح هذه النسبة إلى جبل باليمن نزله حسان بن عمرو الحميري هو وولده ودفن به قلت‏:‏ وشعب في بلاد اليمن مكان معروف بالقرب من موضعنا والله اعلم أي لك هو‏.‏

وفي السنة المذكورة توفي خالد بن معدان الكلاعي الفقيه العابد قيل إنه كان يسبح في اليوم أربعين ألف تسبيحة وأنه قال لقيت سبعين من الصحابة‏.‏

وفيها وقيل قبل المائة توفي عامر بن سعد بن أبي وقاص وكان ثقة كثير العلم‏.‏

وفيها وقيل في سنة سبع توفي أبو قلابة الجرمي عبدالله بن زيد الإمام البصري وقد طلب للقضاء فهرب وقدم الشام فنزل بداريا وكان رأساً في العلم والعمل وفيها وقيل في التي قبلها وقيل في ست أو سبع ومائة توفي أبو بردة عامر بن أبي موسى عبدالله بن قيس الأشعري قاضي الكوفة كان أبوه صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قدم علمه من اليمن مع الأشعريين فأسلموا وهو الذي قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صوته‏:‏ ‏"‏ لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود ‏"‏ وقد تقدم هذا مع غيره في ترجمته ثم صار ابنه المذكور قاضياً على الكوفة وليها بعد القاضي شريح على ما ذكر بعضهم في الطبقات وله مكارم ومآثر مشهورة وتولى ولده بلا قضاء البصرة وهم الذين يقال فيهم ثلاثة قضاة في نسق‏.‏

وفيهم قلت‏:‏ ثلاثة أمجاد قضاة جميعهم على نسق للاشعري انتسابهم وأعي أبا موسى الصحابي ذا العلا فتى صوته مزمارهم وربابهم وبيان النسق المذكور أن أبا موسى قضى بالبصرة لعمر‏.‏

ثم بالكوفة لعثمان رضي الله تعالى عنهم وولده وولده في الكوفة والبصرة كما ذكرنا وفي بلال المذكور يقول ذو الرمة‏:‏ سمعت الناس ينتجعون غيثاً فقلت لصيدح انتجعي بلا لا وصيدح اسم ناقته وأبو برده بن أبي موسى الأشعري قاضي الكوفة‏.‏